والباءُ لِلْمُلابَسَةِ أيْ مُلابِسِينَ لِنِعْمَةٍ وفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ. فالنِّعْمَةُ هي ما أخَذُوهُ مِنَ الأمْوالِ، والفَضْلُ فَضْلُ الجِهادِ. ومَعْنى لَمْ يَمْسَسْهم سُوءٌ لَمْ يُلاقُوا حَرْبًا مَعَ المُشْرِكِينَ. إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ - أبو الهيثم محمد درويش - طريق الإسلام. وجُمْلَةُ إنَّما ذَلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أوْلِياءَهُ إمّا اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ إنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ بَدَلًا أوْ صِفَةً كَما تَقَدَّمَ، وإمّا خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ مُبْتَدَأً، والتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إلى آخِرِهِ إنَّما مَقالُهم يُخَوِّفُ الشَّيْطانُ بِهِ. ورابِطُ هَذِهِ الجُمْلَةِ بِالمُبْتَدَأِ، وهو الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ، عَنِ اسْمِ الإشارَةِ، واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ. ثُمَّ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكم إمّا عائِدٌ إلى المَقالِ فَلَفْظُ الشَّيْطانِ عَلى هَذا مُبْتَدَأٌ ثانٍ، ولَفْظُهُ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ، والمَعْنى: أنَّ ذَلِكَ المَقالَ ناشِئٌ (p-١٧٢)عَنْ وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ في نُفُوسِ الَّذِينَ دَبَّرُوا مَكِيدَةَ الإرْجافِ بِتِلْكَ المَقالَةِ لِتَخْوِيفِ المُسْلِمِينَ بِواسِطَةِ رَكْبِ عَبْدِ القَيْسِ.
(p-١٧٠)وقَوْلُهم ﴿حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾ كَلِمَةٌ لَعَلَّهم أُلْهَمُوها أوْ تَلَقَّوْها عَنِ النَّبِيءِ ﷺ. وحَسْبُ: أيْ كافٍ، وهو اسْمٌ جامِدٌ بِمَعْنى الوَصْفِ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ، قالُوا: ومِنهُ اسْمُهُ تَعالى الحَسِيبُ، فَهو فَعِيلٌ بِمَعْنى مُفْعِلٍ. وقِيلَ: الإحْسابُ هو الإكْفاءُ، وقِيلَ: هو اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنى كَفى، وهو ظاهِرُ القامُوسِ. ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. ورَدَّهُ ابْنُ هِشامٍ في تَوْضِيحِهِ بِأنَّ دُخُولَ العَوامِلِ عَلَيْهِ نَحْوَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، وقَوْلُهم: بِحَبْسِكَ دِرْهَمٌ، يُنافِي دَعْوى كَوْنِهِ اسْمَ فِعْلٍ لِأنَّ أسْماءَ الأفْعالِ لا تَدْخُلُ عَلَيْها العَوامِلُ، وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ، وهو ظاهِرُ كَلامِ سِيبَوَيْهِ. وهو مِنَ الأسْماءِ اللّازِمَةِ لِلْإضافَةِ لَفْظًا دُونَ مَعْنًى، فَيُبْنى عَلى الضَّمِّ مِثْلُ: قَبْلُ وبَعْدُ، كَقَوْلِهِمْ: اعْطِهِ دِرْهَمَيْنِ فَحَسْبُ، ويَتَجَدَّدُ لَهُ مَعْنى حِينَئِذٍ فَيَكُونُ بِمَعْنى لا غَيْرَ. وإضافَتُهُ لا تُفِيدُهُ تَعْرِيضًا لِأنَّهُ في قُوَّةِ المُشْتَقِّ ولِذَلِكَ تُوصَفُ بِهِ النَّكِرَةُ، وهو مُلازِمُ الإفْرادِ والتَّذْكِيرِ فَلا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّثُ لِأنَّهُ لَجُمُودِهِ شابَهَ المَصْدَرَ، أوْ لِأنَّهُ لَمّا كانَ اسْمَ فِعْلٍ فَهو كالمَصْدَرِ، أوْ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ، وهو شَأْنُ المَصادِرِ، ومَعْناها: إنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِاللَّهِ ناصِرًا وإنْ كانُوا في قِلَّةٍ وضَعْفٍ.
﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكم فاخْشَوْهم فَزادَهم إيمانًا وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾ ﴿فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهم سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿إنَّما ذَلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهم وخافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إلى آخِرِهِ، بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ والرَّسُولِ أوْ صِفَةً لَهُ، أوْ صِفَةً ثانِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ في قَوْلِهِ وأنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُؤْمِنِينَ عَلى طَرِيقَةِ تَرْكِ العَطْفِ في الأخْبارِ. وإنَّما جِيءَ بِإعادَةِ المَوْصُولِ، دُونَ أنْ تُعْطَفَ الصِّلَةُ عَلى الصِّلَةِ، اهْتِمامًا بِشَأْنِ هَذِهِ الصِّلَةِ الثّانِيَةِ حَتّى لا تَكُونَ كَجُزْءِ صِلَةٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ابْتِداءُ كَلامٍ مُسْتَأْنَفٍ، فَيَكُونُ مُبْتَدَأً وخَبَرُهُ قَوْلُهُ إنَّما ذَلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أوْلِياءَهُ أيْ ذَلِكَ القَوْلُ، كَما سَيَأْتِي.
شكرا لدعمكم تم تأسيس موقع سورة قرآن كبادرة متواضعة بهدف خدمة الكتاب العزيز و السنة المطهرة و الاهتمام بطلاب العلم و تيسير العلوم الشرعية على منهاج الكتاب و السنة, وإننا سعيدون بدعمكم لنا و نقدّر حرصكم على استمرارنا و نسأل الله تعالى أن يتقبل منا و يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
وحَذَفَ مَفْعُولَ جَمَعُوا أيْ جَمَعُوا أنْفُسَهم وعَدَدَهم وأحْلافَهم كَما فَعَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ الأوَّلِ. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ وأهْلُ العَرَبِيَّةِ: إنَّ لَفْظَ النّاسَ هُنا أُطْلِقَ عَلى نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ وأبِي سُفْيانَ، وجَعَلُوهُ شاهِدًا عَلى اسْتِعْمالِ النّاسِ بِمَعْنى الواحِدِ والآيَةُ تَحْتَمِلُهُ، وإطْلاقُ لَفْظِ النّاسَ مُرادًا بِهِ واحِدٌ أوْ نَحْوُهُ مُسْتَعْمَلٌ لِقَصْدِ الإبْهامِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٥٤] قالَ المُفَسِّرُونَ: يَعْنِي بِـ (النّاسَ) مُحَمَّدًا ﷺ. وقَوْلُهُ فَزادَهم إيمانًا أيْ زادَهم قَوْلُ النّاسِ، فَضَمِيرُ الرَّفْعِ المُسْتَتِرِ في فَزادَهُمُ عائِدٌ إلى القَوْلِ المُسْتَفادِ مِن فِعْلِ قالَ لَهُمُ النّاسُ أوْ عائِدٌ إلى النّاسُ، ولَمّا كانَ ذَلِكَ القَوْلُ مُرادًا بِهِ تَخْوِيفُ المُسْلِمِينَ ورُجُوعِهِمْ عَنْ قَصْدِهِمْ. وحَصَلَ مِنهُ خِلافُ ما أرادَ بِهِ المُشْرِكُونَ، جَعَلَ ما حَصَلَ بِهِ زائِدًا في إيمانِ المُسْلِمِينَ. فالظّاهِرُ أنَّ الإيمانَ أُطْلِقَ هُنا عَلى العَمَلِ، أيِ العَزْمِ عَلى النَّصْرِ والجِهادِ وهو بِهَذا المَعْنى يَزِيدُ ويَنْقُصُ ومَسْألَةُ زِيادَةِ الإيمانِ ونَقْصِهِ مَسْألَةٌ قَدِيمَةٌ، والخِلافُ فِيها مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الأعْمالَ يُطْلَقُ عَلَيْها اسْمُ الإيمانِ، كَما قالَ تَعالى ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] يَعْنِي صَلاتَكم.
اللهم هون برد الشتاء, 2024